بسم الله الرحمن الرحيم
العمر ولاشك عبارة عن ساعات
مجموعة ، منها ساعات تمر بنا من غير أن نشعر بها ، تجري مراكبها تسابق
الرياح ، تحمل أشياء نحبها وأخرى ننكرها ..
ومنها ساعات نترقب قدومها بشوق ثائر
يعترينا ، وخطى نسرع تجاهها , ننتظر أوان حلولها ضيفا عزيزا يزين بنسماته
مجالسنا ، ويعطر بزهره أيامنا ، فتشرق شمس أمل جديد ، يرسم فرحة ويطبع
بسمة على ثغر حزين..
ومنها ساعات نهرب منها ، نخشى
مواجهتها ، وننرجو أن تنقضي بسرعة ، لأنها تزرع فينا مشاعر الخوف والقلق ،
فلا نملك أن نواجهها أونتحداها إلا في حالة ينتصر فيها سلطان إيماننا ،
ويقوى وازع رضانا بتصريف أقدارنا خيرها وشرها..
ووسط زحمة هذه الساعات التي
تمر وتنقضي ، تولد ساعة فريدة ، غالية نفيسة ، تخرج من رحم الزمن ، تصرخ
بنبض الحياة ، تتنفس بانتظام ، تهب هبوب الرياح المرسلة ، تغيث عطش النفوس
الظمأى ، وتخمد نار قلوب حيرى ، تهدئ أوجاعها وتضمد جراحها ، فما تلبث أن
تطلبها على الدوام..
إنها الساعة الوحيدة من بين كل الساعات ، التي تطوي دروب
الزمن ، وتقفز خلف الأسوار ، فتبعث في النفس البشرية إحساسا متميزا ،
يصرفه عن الفتور والكسل ، ويصنع منه إنسانا مؤمنا قويا ، يدرك معنى التدين
الحقيقي ، فيقبل على الله بفهم وإحساس جديد ، يرفعه عن النقائص ويرغبه في
الفضائل ، ويزهده في حب الدنيا والتعلق بزخرفها وديباجها ومحاسنها الزائلة
...
إنها ساعة الفرحة الكبيرة التي تغمر النفس بالنشوة ، وتطبع على ثغرها أجمل بسمة، فيصير للحياة طعم حلو المذاق ولون بهيج كلون باقات الورد ..
إنها ساعة السعادة الحقيقية التي ينشرح لها الصدر ،
ويسر الفؤاد ، ويطرب القلب ، ويغرد بصوت عذب على غصن رطيب أجمل نشيد ،
يحرك الإحساس فيطلق اللسان سراح الكلمات ، فتطير نحو الأفق ، تحمل على
جناحيها خواطر نفس تجيش بمعان صادقة ونبيلة ، تزود المؤمن الحقيقي بزاد
يقوي صلبه ، ويسند ظهره ، ويشد أزره ، ويعينه على مواصلة الطريق بعزم
وإصرار على بلوغ المرام ، وختم رحلة الحياة بمسك الختام .. إن الساعة التي
تدق ويسمع صدى صوتها يتردد هي التي يشعر العبد المؤمن خلالها بأن إيمانه
تجدد ، و توبته صدقت ، وعزيمته قويت، ونور يقينه سطع فبهر بآياته نوازع
شكه ، فتحرر من كل سلطان إلا سلطان الحق سبحانه ، ومن كل عبودية للأشخاص
والأشياء .. إلا عبودية الخضوع والتذلل ، للواحد الأحد الفرد الصمد الذي
لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ...
العبودية التي ترفعه ولا
تنزله ، تمكن له في الأرض ولا تذله أوتهينه ، تطهره ظاهرا وباطنا ولا
تنجسه بالرذائل أوالموبقات ..، تزيده فضلا ولا تنقصه خصيصة ، تشعره بأنه
إنسان اكتملت فيه خصائص التكريم والتشريف ، وأنه امتلك حريته بتمام معناها
الحقيقي ، الموائم لطبيعة جنسه ، المنسجم مع احتياجاته ومتطلباته ..
إن ساعة الشعور بلذة العبادة وسموها ، لأجمل
ساعة يعيشها العبد المؤمن، إنه اختيار حر من بين ساعات الزمن الفانية ، لا
تمر إلا وقد خلدت آثار معالمها على النفس ، فتقبل على الله بحب لا مثيل أو
شبيه له .
إنها ساعة اتخاذ القرار بارتقاء مدارج السالكين
، الفاتحين لرتاج أبواب الأصفياء والأولياء والصالحين ، المدركين لمعانى
الزهد الحقيقي بلا شطحات ولمعانى الولاية الصادقة الخالصة بلا مبتدعات ولا
منكرات ..
إنها ساعة الرقي في الإحساس بدورة الحياة وحركة الكائنات ، واتصال روحي
لطيف بنسمات إيمانية لها عطر فواح ، وإشراقة نفس وتفتح بصيرة نافذة على
آيات كونية باهرة ، وإدراك حواس لمراتب علوية ، وتجرد عن شوائب الزيادات
وفضول الكلام والأفعال ، وسمو يسبح بالعبد في فلك النقاء والصفاء ، ويرتقي
به نحو مقام الأطهار ، ممن خلعوا عنهم لباس الدنيا وتزينوا للآخرة ،
وتخلصوا من أدرانها وأصدائها ، وتخلوا عن شوائبها وأنجاسها ..
إن الساعة التي يتحرر فيها
العبد من سجن العبودية لغير الله ويندرج في سلك العبودية الخالصة لله ،
يشعر حينها بدورة الزمان ، وبجمال المكان ، فتتفتح بصيرته على نظرة جديدة
للكون والكائنات ، فيسعى في الأرض سعي العاملين الراغبين بلوغ الدرجات
العلى من الجنة ...
إن ساعة كمثل هذه الساعة لا تعادلها أي ساعة أخرى
إحساسا ووجودا وتغييرا ، إنها لحظة الصدق مع النفس ولحظة الصفاء والنقاء
الروحي ، وساعة طهارة القلوب والتصورات والمشاعر والصلات والأعراض والبيوت
والأسر والمجتمعات والأوطان والحياة ككل
إن الإنسان ليعيش ساعات
كثيرة تعد في رصيد عمره بالسنوات ، لكن كم من ساعة عاش فيها إحساسا ربانيا
كهذا ، كم من ساعة خفق فيها نبض قلبه هاتفا داعيا راجيا مقبلا على الله
بتجرد .. ففاضت دموع عينه وجرت رقراقة ، فحن شعوره ولانت حناياه ، فتجرد
من غطرسته وكبره وأنانيته وماديته ..
كم من ساعة خصصها لربه؟ ، وقال لنفسه
تعال نؤمن بربنا ساعة ؟ ، تعال نترجم حبنا وخوفنا من الله ساعة ، تعال
نعتكف لأجل الله ساعة ، وننسى بعدها كل شيء ولو ساعة ، فقد تكون هي
الوحيدة من بين مثيلاتها ، من قبلت فيها كلمة أو ابتسامة أو صدقة أو صلاة
أو معروف مهما قل أو عظم ، لأنها امتازت وتفوقت على أقرانها بعلامة النجاح
، علامة الصدق
أما الساعات الأخر التي تمر بنا وهي زهيدة تافهة ، تحمل مراسم وشعائر
وعادات وتقاليد سيئة وأقوال وتصرفات هابطة مزرية ، لتسيء للإنسان في دينه
و قيمه و أخلاقه وتحرف مفاهيمه وتفقده
إن الساعة التي لا يشعر العبد فيها بالخجل كلما مرت وتذكرها وتفكر فيها ،
لعزيزة غالية تصغر عندها التضحيات ، وتخف الجراح وتفتر، وتهدأ الآلام
وتتوقف
إن ساعة مهما كان عمرها قليل ، ودورة مؤشرها بطيء ، لتستحق بما تحمله من
آمال وأحلام وأهداف عظيمة ومشروعات ضخمة ... أن يعتني بها العبد ويوظف لها
كل جوارحه ، لتكسب السبق وتحتل الصدارة ، وترتق سلم المجد ، وتبلغ أفق
الكرامة وتحظى بالمنة العلوية ، لأن آثار معالمها على حياة الأفراد
والجماعات ظاهرة ، و بصماتها على تاريخهم الإيماني والإنساني خالدة
إن ساعة كهذه حق لها أن
نسميها ساعة التفضل والعطاء وساعة الشكر والوفاء .. ومهما أطلقنا عليها من
محاسن الأسماء فهي نزر من فيض ، وهي نفسها من تعلمنا الجمال في الإبداع ،
والعطاء والإحساس ..
وختاما ما أروعها من ساعة نعيش لنحياها سعداء ونموت وتسجل في صحيفتنا أجورا عظام تبلغنا الجنان