الباكستانيون يديرون ظهورهم لحركة طالبان ويتبرأون منها
بينما يتطور ويشتد أوار القتال بين مسلحي طالبان والجيش الباكستاني ليغدو حربا ضروسا من أجل روح وجوهر باكستان، يعتقد حنيف محمد أن الحركة قد خسرت أصلا واحدة من معاركها العصيبة والحاسمة.
في اليوم الحادي عشر من كل شهر من الأشهر الإسلامية، يقوم جيراني في مدينة كراتشي بإطلاق أجهزة الصوت (الاستريو) على عنانها في المساء ويشرعون بأداء أغاني التقوى والورع الديني.
البيت هو ملك لأحد المصرفيين، والذي يحتل في الوقت ذاته مكانة روحية كأحد الزعماء الثانويين للطائفة الجيلانية التي بدأت أصلا في العراق.
ألحان بوليوود
تبدأ أمسية جيراني عادة بتراتيل وترنيمات وأناشيد بمديح النبي محمد، ويقومون بتلحينها على أنغام وألحان أشهر الأغاني الرائجة في "بوليوود".
وتنساب الألحان والأغاني إلى أذني أحيانا مخترقة سقف منزلي.
وجيراني هم معظمهم من الرجال متوسطي العمر، وقد أطلق معظمهم لحاهم.
أما الصف الطويل من السيارات التي رُكنت خارج المنزل، فيشير إلى أنهم يفضلون آخر الموديلات من السيارات الفارهة.
وتكون عادة خاتمة سهرتهم الروحية أغنية جماعية (كورال) يعلو فيها أداؤهم، إذ ينضم الجميع إلى الغناء.
ترانيم وأهازيج
من الصعوبة بمكان ترجمة الترانيم والأهازيج التي يطلقونها، لكنها تعبر عن رغبتهم الجماعية بالانتقال بأرواحهم والتحليق إلى مدينة "بغداد المقدسة".
يعلِّق أحد الضيوف المقيمين معنا على أغاني الكورال تلك، التي يستمع إليها معنا، قائلا: "لدى كراتشي نصيبها من المشاكل والقلاقل، لكنني بالتأكيد لن أنتقل إلى بغداد. تُرى، ألا يقرأ هؤلاء الصحف؟"
نزح الملايين عن ديارهم في سوات من جرَّاء المواجهات بين الجيش ومسلحي طالبان
وليس جيراني هم الوحيدين من أفراد الطبقة الوسطى من الباكستانيين ممن يسكنون المدن الذين ويتوقون بالعودة القهقرى إلى الماضي الذي يرسمونه في أخيلتهم للحياة في الصحارى العربية-أي عالم المدينة الفاضلة المثالي حيث يحلمون بعيش حياة التقوى والتبريك هناك وإلى الأبد.
يتضرع المؤمنون في كل يوم ويتطلعون، عبر ألف صلاة وعظة، إلى العودة إلى ربوع مكة والمدينة.
الأرض الموعودة
وحتى وقت قريب، كان العديد يعتقد بأن طالبان ستتابع تقدمها لتصل إلى تلك الأرض الموعودة، أو على الأقل أن تخلق نسخة منها هنا في وطنهم.
لقد طرح أتباع طالبان أنفسهم لوقت طويل على أنهم هم الحلقة المفقودة بين الحاضر وماضي الطهر والورع والتقوى وطريقا ومسلكا للحياة البسيطة والخلاص الأبدي.
فقبل أربعة أسابيع خلت فقط، كانت معظم محطات التلفزيون الناطقة بلغة الأوردو تتصرف وكأنها لسان حال طالبان وتقود جوقة المهللين والمصفقين للحركة.
كما أن معظم كتَّاب الأعمدة بلغة الأوردو في الصحف كانوا يقدمون حركة طالبان باكستان على أنها إعادة تجسيد للمقاتلين الملسمين الأوائل.
صراخ وصخب
أمَّا الآن، وفي إجماع نادر، فقد بات هؤلاء جميعا يملأون الأرض صراخا وصخبا ويدعون إلى شن حرب شاملة ضدهم (أي ضد طالبان).
وحتى أولئك الأشخاص الذين كانوا جالسين يرقبون المشهد من بعيد، أو أولئك الذين كانوا يعتبرون طالبان محض شأن محلي، فقد أدركوا فجأة أن الحركة كانت في الواقع تستعد للانقضاض عليهم وتدمير طريقتهم واسلوبهم ونهجهم في الحياة.
فقد استنتج كل استطلاع للرأي أُجري في باكستان أن البلاد أمست مرتعا للمشاعر المناهضة والمعادية للولايات المتحدة الأمريكية.
لكن الآن، ونظرا لأنها تواجه حربا شرسة ضد طالبان، فإن الأمة الباكستانية تبدو وكأنها قد توحدت وراء أكثر الشعارات أمريكية: أي شعار "إنهم يهددون طريقتنا ونهجنا في الحياة".
تُرى، كيف بدَّلنا آراءنا وافكارنا بمثل هذه السرعة؟
لحظة التغيير
إن حركة طالبان باكستان هي المسؤولة عن الأمر، وذلك أكثر من الحكومة أو الإعلام. فيمكن أن نرصد حدوث التبدُّل والتغيير الجماعي في المشاعر ابتداء من لحظة بث شريط الفيديو الذي دام قرابة دقيقتين وظهر فيه رجال من طالبان وهم يجلدون فتاة صغيرة. لقد شكَّل الخبر حينها مادة خصبة لعناوين الأخبار في كافة أرجاء العالم.
الكل يعرف أن طالبان تقوم بجلد وقطع رؤوس البشر، وعندما يودون إظهار الجانب الأرق من شخصياتهم، فهم يطلقون النار على الأشخاص أو يقطعون آذانهم. إلا أن أحدا لم يرهم وهو يقومون بذلك.
لكن في ذلك الفيديو (أي فيديو جلد الفتاة)، يبدو رجال يرتدون زي طالبان التقليدي ويطلقون اللحى، وهم يمسكون فتاة شابة ويقومون بجلدها بطريقة ممنهجة ومنظمة، بينما راحت الفتاة تصرخ وتطلب العفو والسماح.
تحول مؤخرا تأييد الباكستانيين لطالبان وانقلب إلى تذمر وشكوى وخوف على نهج حياتهم
ما جريمتها؟
كما أنه لم يتضح أبدا ما هي جريمتها.
نسمع في الفيديو أيضا أحد الرجال يقول لزميله الآخر بأن يمسك الفتاة ويبطحها أرضا بقوة وإحكام.
لقد كان لسلسة اللقطات والصور التي ظهرت في الفيديو المذكور أثر ووقع على نفسية وتفكير الناس أقوى وأكثر من ألف حوار ونقاس لاهوتي بُثَّته شاشات التلفزيون.
فلأول مرة، تستطيع صرخات فتاة شابة أن تُخرس من كانوا يطلقون صيحات التأييد والتهليل لطالبان.
مقابلات تلفزيونية
بعدها، خرج قادة وزعماء طالبان، عبر سلسلة من المقابلات واللقاءات التلفزيونية، ليطرحوا ويشرحوا خارطة الطريق التي رأوا أنه يتعين على الأمة الباكتسانية أن تسلكها.
لم يكن وادي سوات فقط هو الذي أرادوا (أي طالبان) "تطهيره من الشرور"، كالمدارس والموسيقى والديمقراطية والحلاقين ونظام القضاء. فقد كانوا يعتقدون أنه إن كان الأمر (أي تطبيق نظامهم وقوانينهم) شيئا جيدا لسوات، فسيكون كذلك أيضا بالنسبة لبقية أنحاء البلاد.
كما أنهم كانوا يودون أيضا فرض نسختهم وطرازهم في الحكم على بقية أنحاء العالم كافة فيما بعد. لقد طلبوا من الحكومة أن تمدَّهم بالسلاح لتنفيذ مهمتهم ورسالتهم إلى البشرية.
لقد كان الأمر (أي الشريط ومقابلات قادة طالبان التلفزيونية) بمثابة الكارثة المزلزلة في مجال العلاقات العامة.
عملية عسكرية
وعندما شنت الحكومة أخيرا عمليتها العسكرية في وادي سوات، فقد عادت نفس محطات التلفزيون، التي انهمكت ببث الحوارات والنقاشات المفصلة التي ترمي لشرح وتوضيح سوء الفهم المُفترض بشأن طالبان، رجعت تلك المحطات إلى الأرشيف لتفتش عن الأناشيد والأغاني الحربية القديمة لتساهم بدعم القوات الباكستانية في حربها ضد طالبان.
أتساءل إن كان هذا التبدل في المشاعر حقيقيا وأصيلا، أم كان مجرد رد فعل انعكاسي تفرضه الذريعة القائلة إنه يتعين علينا دعم القوات المسلحة لأنها تقاتل لحماية نهجنا وطريقتنا في الحياة.
يرى بعض الباكستانيين أن الجيش يدافع عن نهجم وطريقتهم بالحياة في وجه طالبان
وما زال العديد من كتَّاب الأعمدة بلغة الأوردو يذهبون بعيدا في تفسير وشرح مقولة إن طالبان كانت على وشك أن تفرض النسخة والطراز الخاص بها للدولة الإسلامية في أفغانستان، أو للقول إن حركة طالبان باكستان ليست بطالبان حقيقية، بل هي مكونة من عملاء هنود.
وهناك مجموعة من الصور المثيرة والملطَّخة بالدماء، والتي يجري تناقلها الآن عبر شبكة الإنترنت ويقول موزعوها إنها تدعم وجهة نظرهم تلك وما يذهبون إليه من وصف لطالبان باكستان.
لا ختان
وتُظهر الصور جثثا جرى التمثيل بها وهي تعود لأشخاص بُترت أطرافهم ويُزعم انها لعناصر من حركة طالبان، وقد بدا بعضهم مرتديا سراويل أُنزلت إلى الأسفل لإظهار أن الأعضاء التناسلية الذكرية لأولئك الأشخاص لم تتعرض للطهور أو الختان قط، وذلك في إشارة واضحة إلى أنهم ليسوا بمسلمين.
ويسعى مروِّجو الصور أيضا إلى إقناعنا أن طالبان ليست في الواقع نتاج انزلاق خطير لباكستان نحو العنف الديني، بل أن الأمر برمته مجرَّد مؤامرة دبَّرها وأطلقها ضدنا الهنود والإسرائيليون، وبالطبع، الأمريكيون.
إن ما علينا تغييره هو هذا النوع من التفكير، وذلك قبل أن نستطيع أن نقرر ما إذا كانت طريقتنا في الحياة تنتمي إلى وقتنا الحاضر ولحظتنا الراهنة، أم أنها تنتمي إلى مكان ما من ضواحي مكة وشعابها.
عندها فقط نستطيع أن نفعل شيئا ما لإنقاذ نهجنا وطريقتنا في الحياة.